من يضع الجرس في رقبة القط؟!
العنوان أعلاه يشير بالطبع إلى القصة المعروفة والخاصة باجتماع عدد من الفئران التي تعيش في أحد البيوت الكبيرة، حيث تتمتع بسعة العيش وحرية الحركة، لكن ما كان يقلقها حقاً هو وجود ذلك القط الذي كان يمتلك مخالب وأسنان حادة تسمح له بإرعابها وإفساد حياتها. ولإرساء نوع من السلام والطمأنينة في حياتها، كان يجب على هذه الفئران تحييد ذلك الخطر الذي يمثله القط، وبعد عدة اجتماعات عقدتها ومناقشات أجرتها حول هذا التحدي، اهتدت أخيراً إلى فكرة "جهنمية"، وخلاصتها أن تضع جرساً حول رقبة القط، الأمر الذي يتيح لها في هذه الحالة سماع القط والتفطن له حال قيامه بأي حركة للاقتراب بغية الانقضاض على أحدها، وذلك حتى لا يفترسها العدوُّ واحداً بعد الآخر. كانت فكرة الجرس هذه بالفعل فكرة عبقرية كفيلة بإنذار الفئران وتنبيهها قبل أن يقترب القط ليحيق بها. لكن هذا الحل "العبقري" واجه مشكلة عويصة: من يستطيع فعلاً وضع الجرس حول رقبة القط!
مغزى هذه القصة هو بالطبع كيفية وجود حلول عملية في مواجهة من يتحكمون في المصائر، خاصة عندما يكون الضحية معاقاً جسمانياً أو نفسياً؟ أسوق هذه القصة بمناسبة كارثة "دومنيك ستراوس -كان"، المدير السابق لصندوق النقد الدولي، إحدى أقوى المؤسسات العالمية (يفوق في قوته بكثير البنك الدولي)، إذ هو المؤسسة المعنية بوضع قواعد الاقتصاد العالمي، ومن ثم فهي تتحكم في مصائر ملايين البشر الذين يدفعون ثمناً باهظاً إذا لم تستمع حكوماتهم لما يعتبره الصندوق "نصائح””" منه، والتي هي في الواقع أوامر وليست نصائح، حتى أن البعض يسمي هذه المؤسسة "صندوق النكد الدولي".
لم يكن ستراوس اقتصادياً فرنسياً ذا شهرة عالمية فقط، بل كان نجماً ساطعاً داخل النخبة السياسية الفرنسية والأوروبية على العموم، حتى أن الحزب الاشتراكي الفرنسي قرر اختياره ليكون مرشحه الرئاسي في مواجهة ساركوزي خلال الانتخابات الرئاسية في صيف العام القادم. وكان اختيار ستراوس لرئاسة الصندوق قبل حوالي أربعة أعوام قد جاء بتأييد قوي من الدول الأوروبية، وقد نجح فعلاً عندما تولى إدارة الصندوق، في نوفمبر 2007، في انتشال المؤسسة المالية العالمية من أشد أزماتها تعقيداً. وهكذا فقد اتسمت رئاسته بسلسلة من الإنجازات التي كان الصندوق في أشد الحاجة إليها، وخاصة في خضم الأزمة المالية العالمية لسنة 2008.
لكن فجأة وبسرعة غير متوقعة، هوى ذلك النجم الاقتصادي ورجل العالم القوي إلى القاع، وبعد آخر لياليه في فندق "سوفتيل" إلى القرب من مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وحيث تكلف الليلة الواحدة في أحد الأجنحة الفخمة لذلك الفندق المعروف نحو 3000 دولار، قضى ستراوس ليلته التالية مع أعتى المجرمين في أحد أماكن الحجز في نيويورك، قبل أن يخرج أخيراً بكفالة مالية تبلغ مليون دولار مع تأمين بمبلغ خسمة ملايين دولار، وبعد أن أودع لدى محكمة الجنح جواز سفره ووافق على أن يكون تحت رقابة إلكترونية دائمة.
ولعلنا الآن جميعاً نتذكر صورة ستراوس في الإعلام مقبوضاً عليه، بينما كانت القيود الحديدية في يديه، كما لو أنه مثل أي أحد من المجرمين الخطرين الكثيرين.
وسبب هذا النزول السريع إلى الهاوية هو الخضوع للشهوات الجنسية في صورتها كمرض، أو بمعنى أدق عدم القدرة على التحكم في هذه الشهوة الغريزية. والاتهام الموجه رسمياً إلى ستراوس هو الخروج من حمام جناحه عارياً ليهاجم عاملة التنظيف الغينية المسلمة ذات الـ32 عاماً وإجبارها على الانصياع لرغبته قبل أن تستطيع الفرار من يديه وتبلغ إدارة الفندق، التي بدورها أبلغت شرطة نيويورك، فما كان من هذه الأخيرة إلا أن بادرت بالتحرك إلى أن قامت في النهاية بإنزاله من مقعده في الدرجة الأولى على متن رحلة لطائرة "إيرفرانس"، كانت على وشك الإقلاع من مطار كيندي في نيويورك متوجهة إلى باريس.
ويتضح من الشهادات التي نشرت في الآونة الأخيرة أن لستراوس تاريخاً موثقاً من محاولات التعدي أو التهجم الجنسي ضد الكثير من النساء؛ صحفيات، ومحاميات، وحتى موظفات في مكتبة فرنسا، علاوة على العاملات معه حالياً وفي مراحل سابقة مختلفة... حتى أن الرئيس الفرنسي طلب منه بشكل خاص، محاولة كبح جماح غرائزه قبل السفر إلى الولايات المتحدة حتى لا يقع تحت طائلة القانون هناك.
كان هناك كثيرون إذن، على علم بهذه "الحالة المرضية" المتحكمة برجل يتحكم في الاقتصاد العالمي. لكن تحذير الرئيس الفرنسي لستراوس يثير نقطتين فيما يتعلق ببعض "المرضى" الذين يتحكمون في مصائر الكثيرين:
1- إن ستراوس ظل يمارس تجاوزاته المذكورة حتى بعد وقبل تعيينه على رأس الصندوق، لكن منصبه كان يحميه في فرنسا، بينما يبدو أنه لا أحد فوق القانون في الولايات المتحدة.
2- إن كثيرين من أعضاء النخبة الاقتصادية والسياسية الذين يقررون مصير البشرية أو جزء كبير منها، مصابون بأمراض عدة تؤثر على مزاولة مهامهم واتخاذ القرارات الحاسمة، والأمثلة كثيرة؛ ونذكر منها هنا: كيندي في الستينيات، وحتى كلينتون في الجزء الأخير من ولايته الثانية... لذلك وجبت حماية الشعوب من نزوات هذا الصنف من الرجال وجنونهم. لكن كيف يحدث ذلك؟ أومن يضع الجرس حول رقبة القط؟